fbpx

عام على حكومة جورجيا ميلوني… تحولات اليمين الإيطاليّ 

مضمون تصريحات رئيسة الوزراء في زيارتها لاسرائيل، وقبل تلك الزيارة، لا يمكن فصله عن سياق وسياسة إيطالية وعن تحولات في خطاب اليمين الإيطالي المتشدد منذ وصوله إلى السلطة قبل حتى اليوم.

بينما كانت حكومة اليمين المتطرف الإيطالي بقيادة جورجيا ميلوني تطفئ شمعتها الأولى، بعد عام من التحولات في السياسة الداخلية والخارجية التي شهدتها البلاد على صعيد العلاقة مع أوروبا ومنطقة الشرق الأوسط وإفريقيا وقضايا المهاجرين واللاجئين، اندلعت حرب غزة إثر العملية التي نفذتها “حماس” في غلاف القطاع، فما كان من السيدة ميلوني إلا أن تستهل عامها الثاني في السلطة، بزيارة إلى تل أبيب ولقاء ثنائي جمعها برئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتياهو.

معاداة السامية وحل الدولتين

مضمون تصريحات رئيسة الوزراء في زيارتها لاسرائيل، وقبل تلك الزيارة، لا يمكن فصله عن سياق وسياسة إيطالية وعن تحولات في خطاب اليمين الإيطالي المتشدد منذ وصوله إلى السلطة قبل حتى اليوم.

هكذا، يمكن لمن تابع وقرأ تصريحاتها قبل الانتخابات، تجاه الشرق الأوسط وقضايا المنطقة (ومنها القضية الفلسطينية)، أن يلحظ تبدلاً ملموساً في ذلك الخطاب من حيث دفاعها اليوم عن حل الدولتين بشكل واضح وعلني، وعن ضرورة “إيجاد حل نهائي ومستدام لشعبين في دولتين” وعن “ضرورة أن لا يكون الرد الإسرائيلي على هجوم حماس مدفوعاً بمشاعر الانتقام”. هذا الموقف يتبلور أوروبياً اليوم بشكل واضح، ما يشير أيضاً إلى تحولات إضافية على مستوى تأييد الخط الأوروبي العام في أكثر من موقف، من قبل قوى كانت معادية لأوروبا في السابق.

ما زال حديث ميلوني عن “معاداة السامية” ضبابياً وإشكالياً، كونه لا يتضمن أي معايير تفرز معاداة ما تقوم به حكومة نتنياهو تجاه الفلسطينيين في غزة اليوم وضياع حقوق الفلسطينيين في أرضِهم ودولتهم لعقود طويلة، وبين معاداة السامية الموجودة فعلاً والصادرة عن تيارات وقوى وشخصيات وازنة ومؤثرة، عربية وغير عربية.

قالت ميلوني “معاداة السامية سرطان ينبغي محاربته، ويتقنع بمعاداة إسرائيل”. هذا موقف صحيح وخاطئ في الآن عينه، وقد لا ينطبق على الحالات جميعها، وربما كان مدخلاً للدمج بين معادي هذه ومناهضي تلك. وفي السياق عينه، وفي كلمتها خلال مشاركتها في “مؤتمر السلام” في القاهرة قالت” من مصلحة جميع القادة الجالسين على هذه الطاولة أن لا يتحول ما يحصل في غزة إلى حرب أديان وحرب حضارات” ـ هنا عودة ثانية إلى كلام صحيح من حيث المبدأ، لكنه يبقى مختلفاً عن السياسات والخطابات في إيطاليا خصوصاً، وفي أوروبا عموماً.

هناك أطياف كثيرة ضمن تيارات اليمين المتطرف والشعبوي، هنا في إيطاليا، ثابرت طوال السنوات الماضية على النفخ في قربة خطابات الهوية والتمييز ومعاداة الإسلام والتنميط السلبي للآخرين، يرافقها ويزاحمها في تلك المهمة “الهوياتية” يسار إيطالي يحترف التنميط هو الآخر، وإن يكن “تنميطاً إيجابياً”، من حيث دفاعه الإنشائي عن الإسلام (وحتى عن الإسلاميين أحيانا) دون قيد أو شرط، بصفتهم “رد فعل على استعمار أوروبي سابق”، ومتفوقاً بذلك على كثير من النخب والتيارات اليسارية العربية في هذَين، أي الدفاع والتبرير. 

غني عن القول إن تصعيد الكلام عن الهويات وعن “الخطابات الحضارية”، إلى جانب سياسات نيوليبرالية تضرب الطبقات الأفقر في البلاد، ليست إلا ناراً تحت مرجل الشعبوية والشعبويين، اليساريين واليمينيين منهم، وهي تتغذى من كلا الجانبين، ومن جمهورهما العربي والإيطالي، ولن تزيدها المواقف من حرب غزة ومسائل الهجرة والإسلام، سلباً أو إيجاباً ومجافاةً للسياسة والواقعية، إلا استِعاراً وتأثيراً عليهم، وعلى أوضاعهم هنا.

هل عادت الفاشية حقاً؟

بعد وصول ميلوني إلى الحكم، راجت كتابات وتحليلات كثيرة تقول (وتجزم) بعودة الفاشية إلى إيطاليا. لكنّ ما لم يُنتَبَه إليه، أن رئيسة الوزراء قطعت، وبدرجة واضحة، مع مواقف وتصريحات لها طوال سنوات من وجودها في المعارضة، من حيث معاداتها السابقة للاتحاد الأوروبي والدعوة إلى الخروج منه، والموقف من التحالفات السياسية والعسكرية لإيطاليا، إلى جانب موقعها من قضايا المرأة والحريات الجنسية وقضايا المثليين وغير ذلك. 

حدث هذا التحول، وما يزال يحدث في ظل التضخم وارتفاع الأسعار، وفي ظل خطة اقتصادية أوروبية “مُبشّرة” لإعادة إطلاق الاقتصاد الإيطالي بعد الوباء تحت مسمى PNRR، وهي خطة يشبّهها محللون وخبراء اقتصاد إيطاليون بـ “خطة مارشال” لدعم إيطاليا وأوروبا بعد الحرب العالمية الثانية.

 ومع الحرب الأوكرانية، أظهرت ميلوني وأطراف سياسية إيطالية كثيرة قدرةً بالغة، على التكيف مع الموقف الأوروبي المؤيد لأوكرانيا والمناهض لبوتين. على صعيد آخر، بدا واضحاً أن ثمة فجوة واسعة بين خطة “الحصار البحري” المطروحة لمنع وصول المهاجرين إلى الشواطئ الإيطالية وبين إمكانية تطبيقها على أرض الواقع. وعلى الرغم من التبرّم الحكومي من أعداد المهاجرين الكبيرة التي تصل إلى إيطاليا عبر المتوسط، وخصوصاً إلى ميناء لامبيدوزا، إلا أن سياسة الحكومة تجاه الهجرة كانت، ولأشهر طويلة، أقرب إلى سياسة الحكومات السابقة، بما فيها حكومات اليسار نفسه، مع الدعوة الدائمة إلى دور أوروبي أوسع لتوزيع المهاجرين على بلدان الاتحاد، ونقد سياسات أوروبا تجاه الهجرة، أقله إلى حين توقيعها اتفاقية الهجرة مع ألبانيا.

ما سبق ليس جديداً على السياسة الإيطالية بالمعنى التاريخي، فخلال خمس سنوات وصلت إلى الحكم ثلاث قوى رئيسية وفاعلة وهي “أخوة إيطاليا” بقيادة ميلوني و”الرابطة” بقيادة ماتيو سالفيني، وحركة “خمس نجوم”، وهذه وطأة بدأت كحركة شعبوية مشككة بأوروبا قبل انقلابها على نهجها السابق في انتخابات عام 2018. على رغم ذلك، لم تنحرف إيطاليا عن ارتباطها الوثيق مع بروكسل ومع حلف شمال الأطلسي، وهذا تناقض كبير وافتراق عميق وراديكالي عن مراحل ما قبل الوصول إلى السلطة، لكنه قد يبدو طبيعياً تبعاً لحالة عدم الاستقرار السياسي المعروفة، كما “يعكس استعداداً للاستسلام إلى الواقعية وللضغوط الداخلية والخارجية على البلاد” على ما يرى، مُحقّاً، الكاتب والمحلل السياسي الإيطالي لورينزو كاستيلاني.

نوَسانٌ يمينيّ بين المحافظة والانفتاح

الانتقال والتحول في الخطاب السياسي والاجتماعي لليمين المتطرف الإيطالي، والذي تم إيراد بعض الشواهد عليه أعلاه ليس كاملاً، ولا يعفي قادة إيطاليا اليوم من ثمنٍ يتوجب عليهم دفعه إلى ناخبيهم. فحكومة ميلوني تجد نفسها اليوم ملزمة بضرورة الانفتاح على أوروبا والالتزام بتحالفات إيطاليا وموقعها في نظام العلاقات الدولية، وبين ضرورة العمل على جبهة داخلية تضج بالمعارك الهوياتية والصخب وارتفاع منسوب خطابات الكراهية والإسلاموفوبيا ومعاداة السامية، والدعوات إلى دعم المنتجات الإيطالية في إطار دعم “هوية قومية” لها أرضية واسعة في صفوف ناخبي اليمين أساساً، بعد سنوات من تقديم الوعود “السيادية” لهم.

لا يقف الأمر عند هذا الحد، فثمة نية لدى الحكومة بتقليص صلاحيات رئيس الجمهورية، ومنها تسميته أو عدم تسميته لرئيس الوزراء، وجعْل الأخير منتخَباً على نحو مباشر من قبل الشعب الإيطالي في الانتخابات القادمة، وهو ما يرى كثيرون أنه مشروع يغازل الطموحات السلطوية لليمين المتطرف لأعوام قادمة، ويمنح رئيس الوزراء صلاحيات أكبر وقدرةً أوسع على المناورة ورسم السياسة الداخلية والخارجية للبلد، بمعزل عن الالتزام والتعهدات المتعارف على تقديمها لرئيس الجمهورية.

 يترأس الجمهورية اليوم سيرجيو ماتاريلا، وهو سياسي معتدل ومدافع عن تحالفات إيطاليا وعلاقاتها مع محيطها، وقد أعادت كل القوى السياسية الإيطالية انتخابه قبل عامين، ما عدا السيدة ميلوني التي لم تمنحه صوتها.

لكل هذا، ولغيره أيضاً، يبقى المشهد الإيطالي معقداً ومركَباً، وبعيداً البعد كله عن التبسيط الساذج الذي يجزم بعودة الفاشية إلى إيطاليا وانهيار التحالفات مع بروكسل وغيرها من تنظيرات عربية خصوصاً، سادت وراجت كثيراً، رغبةً في تحقق تلك الاحتمالات و”العودة” أو تخوفاً مشروعاً منها. 

كما يبقى مشهداً محكوم أيضاً بالاستعدادات الجارية الآن لخوض انتخابات مجلس النواب الأوروبي بداية الصيف القادم، وهي انتخابات سيكون لنتائجها تأثير أكيد على المشهد الإيطالي، يميناً ويساراً، تحت وطأة الغلاء والمساعدات الأوروبية المحتملة لروما، والحرب على أوكرانيا وغيرها؛ مما يلعب دوراً في خيارات الإيطاليين وحكوماتهم، ويجعلها خيارات غير نهائية وغير محسومة، كالعادة.