fbpx

مجهولو الهويّة في غزة… رهبة الكشف عن هويات الضحايا

يعاني سكان قطاع غزة من مأساة بعد الآخرى، الموت وحده لم يعد يكفي، إذ يعيش أهل وأقارب الضحايا صدمة التعرف على من قضوا بالقصف الإسرائيليّ، صعوبة التعرف على الجثة وصاحبها واختلاط أرقام الجثث مجهولة الهويّة، حول زيارة البرادات في المشافي إلى تجربة شديدة القسوة.

أنجز هذا التقرير من غزة : ساهر الغرة وقاسم الآغا بالتعاون مع Tinyhand

قالت ريم، بصعوبة صوت مكتوم:”نعم، هذه أمي”، وهي تحاول التعرف على والدتها في إحدى ثلاجات مستشفيات غزة.

كل شيء حدث بسرعة، إذ كان الدخول إلى ثلاجات المستشفيات تجربة مرعبة، كما وصفتها ريم لنا. في تلك اللحظة، طلبت من زوجها وخالها وابنه التعرف أيضاً على والدتها، فأكدوا جميعاً: “نعم، هذه والدتك، رندة لبد”، فأُغلقت الثلاجة وسُجِّلت الجثة باسم والدتها.

“كانت تجربة رهيبة للغاية”، تقول ريم، “لأنه بمجرد قولنا ذلك، بغض النظر عما إذا كان ما قلناه صحيحاً أم خاطئاً، تم تسجيل الجثة باسم والدتي ودفنها لاحقاً”.

لكن، بعد 12 يوماً من القصف الذي استهدف المنزل الذي تعيش فيه والدة ريم في بيت لاهيا، اتضح أنها لا تزال على قيد الحياة، وأن الجثة التي تم التعرف عليها لا تعود لها. وبالتالي، ستظلّ تلك الجثة مجهولة المصير، ومع مرور الأيام، سيصعب تحديد هويتها الحقيقية وتسجيلها باسمها الفعلي. المعلومة المؤكدة، هي أن هناك شخصاً يبحث عنها ولن يجدها!

البحث داخل ثلاجات الموتى

ريم، أم لأربعة أطفال وحاصلة على شهادة صيدلة، وجدت نفسها لا تبحث عن والدتها فقط داخل ثلاجات مستشفيات غزة، بل أيضاً عن ابنة أخيها (9 سنوات). ففي 13 تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، استهدف صاروخ إسرائيلي منزل أخويها، حيث كانا يعيشان في منزل يتألف من طابقين. وأول اتصال ورد إليها بعد الاستهداف، أفاد بأن كل من كان في المنزل قد فارق الحياة.

“صدمة لا يمكن وصفها، بأن يقول لي أحدهم إن عائلتي وذكرياتنا وكل ما يتعلق بهم خسرتهم في ثوان”، تقول ريم. 

لكن مع مرور الوقت، تبين أن هناك ناجين، ففيما لقي أخوها رامي وزوجته حتفهما، نجا أخوها الأصغر، محمد، وفُقد الاتصال مع زوجته الحامل وطفلتين، إحداهما ابنة رامي والأخرى ابنة محمد.

تقول ريم: “رأيت طفلة صغيرة، شكّكت في أنها ابنة أخي. خفت من تأكيد ذلك لأنه بمجرد قولي بأنها هي، ستُسجل في سجل الوفيات”. اليوم، لا تزال هذه الطفلة في عداد المفقودين الذين وصل عددهم إلى حوالى العشرة آلاف، هل نجوا أم قضوا حتفهم أم لا يزالون تحت الأنقاض. باختصار، “إنها لحظات من الجنون” تقول ريم، التي تبحث اليوم مع أخيها محمد عن المفقودين من العائلة.

الرضيع “المجهول الرقم 900 أو 700”

كانت الساعة قرابة الخامسة عصراً عندما استهدف صاروخ إسرائيلي منزل المهندس محمد لبد، حيث كان يعيش مع زوجته الحامل وبناته الثلاث، بينما كان أخوه الكبير رامي يقيم في الطابق العلوي مع زوجته وأولاده الثلاثة.

استفاق محمد ليجد نفسه في المستشفى حيث أُسعف، يقول: “أخبروني بأن زوجتي فارقت الحياة، وفُقدت إحدى بناتي، وهي لا تزال حتى الآن في عداد المفقودين. كذلك، تلقيت خبر وفاة أخي رامي، الذي كان يعمل ممرضاً، وزوجته”.

بعد أيام قليلة، وصلت محمد أنباء تفيد بأن زوجته لا تزال على قيد الحياة وهي موجودة في العناية المركزة، حيث وضعت مولوداً أُطلق عليه اسم “الرضيع المجهول رقم 900 أو 700″، وهو الرقم الذي لم يتم تأكيده له. إلا أن زوجته فارقت الحياة لاحقاً فيما لا يزال الرضيع ضائعاً مجهول المصير.

عند لقائنا بمحمد، كان قد مر شهران على تلك الأحداث ولم يكن قد تلقى أي أخبار حول الرضيع، والأمل الوحيد لديه هو الانتظار حتى تهدأ الأوضاع ليتمكن من البحث عن طفله، حتى لو تطلّب الأمر إجراء فحص الحمض النووي (DNA) للتحقّق من هويته.

في الوقت نفسه، نشر محمد صور ابنته الكبرى وابنة أخيه على مختلف منصات التواصل الاجتماعي، وتوجّه إلى الجهات المختصة للبحث عنهما وكشف مصيرهما المجهول. بالإضافة الى الرضيع المجهول، الرقم 900 أو 700، ليجد نفسه مسؤولاً عن طفلي أخيه الناجيين عادل وسارة.

اليوم، يقيم كل من محمد وأخته ريم مع عائلتيهما في مخيم الهلال الأحمر للإيواء جنوب قطاع غزة، ويعملان جاهدين على استيعاب ما حدث والبحث عن المفقودين.

عادل 6 سنوات وسارة 7 سنوات، تحلم سارة بأن تصبح طبيبة فيما يحلم عادل بأن يصبح مدرساً، والحلم الأهم بالنسبة إليهما هو إيجاد أختهما الكبيرة رندا علّها تخفف قليلاً من وجع خسارة والديهما.

المستشفيات… المكان الأول للبحث 

تشكّل المستشفيات المكان الأول للبحث عن الأطفال الثلاثة المفقودين، لكن التنقل بين المناطق المستهدفة من إسرائيل يُعتبر أمراً صعباً للغاية، بخاصة مع وجود 13 مستشفى تعمل بشكل جزئي، ومستشفيين يعملان بالحد الأدنى، و21 مستشفى لا تعمل على الإطلاق وفقاً لأحدث تقييمات منظمة الصحة العالمية، في ظل ارتفاع عدد الضحايا نتيجة للاستهداف الإسرائيلي. إذ وصل إلى أكثر من 22 ألف فلسطيني خلال ثلاثة أشهر، الى جانب عشرات الآلاف من الأشخاص المفقودين، نصفهم من الأطفال، وآخرين يتلقون العلاج في المستشفيات من دون مرافق، وتؤثر هذه المأساة بشكل خاص على الأطفال. 

يستخدم المسعفون في قطاع غزة مصطلحاً جديداً، وهو WCNSF wounded child no surviving family  لوصف هؤلاء الأطفال المصابين الناجين الوحيدين من بين عائلاتهم، والذي يعكس الوضع الذي يواجهه كثر من أطفال غزة، إذ تتغير حياتهم جذرياً في لحظة بعد فقدان والديهم وإخوتهم وأجدادهم.

عن هذا المصطلح، تقول الدكتورة تانيا حاج حسن في مقابلة مع BBC، إن مستشفيات غزة تضم اليوم أطفالاً مصابين ناجين من دون عائلة ناجية. وبحسب حاج حسن التي تعمل مع منظمة “أطباء بلا حدود”، يعبّر هذا المصطلح عن الوضع المرعب لكثر من أطفال غزة الذين تتبدّل حياتهم في لحظة.

ماذا عن الخدّج والأطفال الرضّع الناجين؟

يقول الدكتور أحمد الفرا، رئيس قسم الأطفال في مجمع ناصر الطبي حيث التقيناه: “واجهنا حالات كثيرة تشمل أمهات حوامل، تعرّض بعضهن لإصابات خطيرة، بينما فقد البعض الآخر حياته. وكان على أطباء الجراحة والولادة التعامل مع هذه الحالات بحرفية وسرعة فائقة لإنقاذ الجنين”.

يضيف الفرا، “يواجه الأطفال في قسم الحضانة وضعاً صعباً نتيجة انقطاع الرضاعة الطبيعية عنهم. في المقابل، يسعى الكادر الطبي جاهداً لرعايتهم وتوفير الحليب الصناعي لهم، حتى يتم تأمين الرعاية اللازمة لهم من أحد الكفاءات الطبية أو الأقارب في حالة وفاة جميع أفراد أسرهم”.

يختتم الفرا بقوله، “هناك حالات كثيرة لم تُعرف هوية عائلاتها بعد، ولم يتم الوصول حتى الآن إلى أي فرد من أفراد الأسرة”.