fbpx

نصرالله الشعبوي دائماً… منتصراً بسبب فشل أعدائه

خطاب حسن نصر الله الأخير شعبوي من دون شك، ولكن انطلاقاً من هذه الحقيقة تماماً، بدا نصرالله مقنعاً، ليس لأنه أعلن النصر ولكن لأنه يبني انتصاراً تلقائياً قوامه الأساسي هو خسارة العدو -إسرائيل والغرب من جهة، وخلو الساحة المحلية والإقليمية من أي منافس حقيقي لمحور إيران من جهة أخرى.

في خطابه الأخير، بدا أمين عام “حزب الله”، حسن نصرالله، أكثر تماسكاً وقدرة على الإقناع مقارنة بخطاباته المتتالية بعد الحرب على غزة. نبرة نصرالله “الانتصارية” لم تكن مبنيّة على أي معطيات واقعية، بل على العكس. جاء الخطاب بعد 24 ساعة تقريباً على عملية اغتيال عالية الدقة في عمق الضاحية الجنوبية لبيروت، وهو ليس فقط إنجازاً أمنياً وعسكرياً لإسرائيل، ولكنه أيضاً دليل على خروقات على مستوى عال في “حزب الله”، تسمح بالوصول إلى معلومات حول توقيت ومكان هذا النوع من الاجتماعات السرّية للغاية.  

على مستوى الساحة الجنوبية، “حزب الله” في موقع معقّد، إذ خسر أكثر من مئة مقاتل، فضلاً عن نزوح عشرات الآلاف من الجنوبيين ثمناً للاشتباكات على “الجبهة الجنوبيّة”، مع ما يعنيه ذلك من تراجع مقوماتهم المعيشية وكساد مواسمهم الزراعية.  

الأهم من هذا كله، هو الأثمان التي دُفعت وتُدفع في غزة يومياً، أكثر من 22 ألف قتيل، أكثر من نصفهم نساء وأطفال، دمار شبه شامل في أجزاء من القطاع يجعل العودة شبه مستحيلة أقلّه على المدى القصير. 

هذه كلها وقائع مرّ نصرالله بجانبها ليس فقط بوصفها تفاصيل، ولكن مقومات انتصار. 

الخطاب شعبوي من دون شك، ولكن انطلاقاً من هذه الحقيقة تماماً، بدا نصرالله مقنعاً، ليس لأنه أعلن النصر ولكن لأنه يبني انتصاراً تلقائياً  قوامه الأساسي هو خسارة العدو -إسرائيل والغرب من جهة، وخلو الساحة المحلية والإقليمية من أي منافس حقيقي لمحور إيران من جهة أخرى.  

“فتنة الربيع العربيّ”

خلال خطابه الذي امتد كما العادة على أكثر من ساعة، فنّد نصرالله خسائر إسرائيل منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، بدءاً من إعادة إحياء القضية الفلسطينية وصولاً إلى سقوط صورة إسرائيل ومروراً بفشل منظومة إسرائيل الدفاعية والردعية وعدم قدرة الجيش الإسرائيلي على تحقيق أهدافه على أرض غزة، وهي كلها نقاط موضوعية ومرتكزة على حقائق.

 النقطة الأهم التي توقف عندها نصرالله بإسهاب، هي “تدمير الصورة الأميركية” التي ورطت العالم العربي بـ”فتنة الربيع العربي”، ومن بعدها “فتنة داعش” والتي هي اليوم “المسؤولة عن حرب إسرائيل في غزة، وعن عدم وقف القتال، وعن قتل الأطفال والنساء، وهي المسؤولة أيضاً عن خرق القوانين الدولية وشرعة حقوق الإنسان…”.

بناء على هذه المعطيات، يبني نصرالله قاعدة انتصاراته وانتصارات محوره، يتحدث الى جمهور واسع مفجوع بما يجري في فلسطين: “إن كنت ضعيفاً لا يبكي العالم عليك حتى بكاء، الذي يحميك هو سلاحك والذي يحميك هو صواريخك”. 

مرة بعد مرة يثبت نصرالله في خطابه، مستعيناً بلهجة تهديدية، فكرة الانتصار المبني على إنجازات حلفاء المحور الإيراني في العراق واليمن وفلسطين وسوريا ولبنان، نافياً في الوقت نفسه مسؤولية طهران عن أي عمل عسكري يقوم به أيّ من حلفائها في المنطقة، مازجاً الرسائل التي تداعب القلوب على المستوى الشعبي، مع تلك التي تتحدث إلى العقول على مستوى صناعة القرار.    

يتحدث عن فتح الجبهة الجنوبية في الثامن من تشرين الأول، باعتباره قراراً “تاريخياً وازناً بين الرؤية الاستراتيجية للحزب والمصلحة الوطنية”، مضيفاً أنه لولا هذا القرار الذي أفقد إسرائيل عنصر المفاجأة، لاستيقظ اللبنانيون على احتلال. 

يتحدث بكثير من الإعجاب والإسهاب عن انتصارات الحوثي في اليمن والأكلاف التي يتكبّدها الاقتصاد العالمي، مع أخذ مسافة كافية من تحميل المسؤولية، أي مسؤولية سياسية لإيران. 

يشدّد نصرالله على أن الحوثي، مثل “حماس” و”حزب الله”، لا يتلقى أوامر من إيران، فشركاؤها “مقاومون أسياد وليسوا عبيداً”، يفعلون ما يريدون لأن إيران، كما يقول، لا تقطع تمويلاً ولا تهدد ولا تقايض شركاءها ولا تبتزّهم كما تفعل أميركا. 

يعيد نصرالله الفكرة مرة بعد مرة، بانياً غالبية ديباجته على فشل الغرب. 

“المُبدع قاسم سليماني”

في مطلع خطابه، يتحدث بإسهاب عن قاسم سليماني بصفته “مبدعاً” ورائداً على مستوى التشبيك وقائداً يفتح المجال أمام آخرين ليلمعوا، ويكاد المشاهد يظن أن العمليات التي أدارها سليماني كانت مشاريع إنمائية للمجتمع المدني. 

واقعياً ومنطقياً، ليس من الصعب الرد على خطاب نصرالله بصفته خطاباً شعبوياً، ولكن ضمن الشروط الحالية ومع استمرار الحرب على غزة تصبح الأمور أكثر تعقيداً ولأسباب موضوعية.

في المعايير الغربية، الخسائر البشرية ودمار المدن والبنى التحتية هي أمور تلعب دوراً كبيراً في تقييم الربح والخسارة في مراحل ما بعد الحرب، وهذا أمر مختلف على المستوى المحلي، حيث لا ثقل أو مكان لأي رأي عام. الأمثلة خلال السنوات الماضية أكثر من أن تُحصى. إيران وحلفاؤها يلعبون لعبة الوقت وينجحون في كل مرة. في سوريا، دمار هائل وأكثر من 6 ملايين لاجئ يشكلون تحدياً إنسانياً على مستوى عالمي، ولكن بشار الأسد انتصر. في حرب تموز/ يوليو، أكثر من ألف قتيل في لبنان ناهيك بدمار شبه كامل للبنى التحتية، ولكن “حزب الله” خرج منتصراً بـ”نصر إلهيّ”. في غزة، قد تخسر “حماس” قيادييها، ولكنّ “حماس” أخرى ستنشأ بعد فترة قصيرة. السوريون واللبنانيون والفلسطينيون قد يخسرون الكثير، وهم من يدفع الأثمان، ولكن هذا لن يعني بالضرورة خسارة المحور الإيراني أو أضعاف حلفائه. إنهاء “حماس”، لا ولن يكون إلا عبر حلّ عادل للفلسطينيين، وهو أمر لا يبدو في المتناول على المدى المنظور.

أزمة “الفراغ” السياسي و”سلطة” حزب الله

على المستوى القيمي، أميركا والغرب أمام خسارة غير مسبوقة، والخاسر هذه المرة ليس فقط حلفاءهم في المنطقة، ولكن مجتمعات غربية بكاملها. الدفاع عن إسرائيل كحليف استراتيجي في المنطقة على خلفية الهولوكوست والتعاطف مع اليهود شيء، والذهاب بهذا الدفاع الى حدود لا تقتصر على القبول بل أيضاً تشمل تمويل وتمكين جرائم حرب شيء آخر. وما نراه من مؤشرات انحلال على مستوى الحكومات الغربية وانجرار كامل وراء لوبي إسرائيلي فعال ومصلحة حكومة يمين متشدد في إسرائيل، إن لم يتم التراجع عنه في وقت قليل سيترك آثاراً هائلة على المجتمعات الغربية. هذا الأثر بدأنا نعيشه، وما يجري في جامعات أميركا وحده مؤشر أكثر من مرعب.

محلياً، الخيارات منعدمة بالنسبة الى من هم ضد المحور الممانع، لا لأسباب سياسية ولكن لأسباب قيمية تتعلق بحقوق الإنسان وحرية التعبير. ما ترتكبه إسرائيل بحق الفلسطينيين من جرائم لا يمكن أحداً أن يسكت عنه. أن يكون المرء على الجانب المحق من التاريخ يعني أن يكون ضد ما تفعله إسرائيل. وهذا الفراغ اليوم، شئنا أم أبينا، يملؤه كل من “حماس” و”حزب الله” والمحور الإيراني. حتى أشد المنتقدين لهذا المحور والمرعوبين من صعوده، لا يمكن أن يكون خيارهم الوقوف الى جانب إسرائيل. 

 من دون شك، لا يريد “حزب الله” حرباً ضد أقوى آلة عسكرية لن تتردد في ارتكاب أي جريمة، ولكنه اليوم، ومهما كان موقفه صعباً، لا يزال اللاعب الأقوى على الساحة اللبنانية. والدليل، انتظار اللبنانيين ومعهم العالم كلمة نصرالله لمعرفة ما إذا كان لبنان ذاهباً باتجاه تصعيد في الرد على عملية اغتيال حصلت في عمق العاصمة اللبنانية. أما الدولة اللبنانية، التي لا تملك رئيساً أو حكومة أو برلماناً أو حتى قضاء فاعلاً، فهي بالكاد شاهد على ما يجري، وهي تعترف فعلاً بأنها لا تعرف ما قد يجري، وأن قرار الحرب والسلم على أرضها ليس في يدها. هذا تماماً ما قاله وزير الخارجية عبدالله بو حبيب لكريستيان أمانبور عندما سألته عن توقعاته، وعما إذا كانت الحكومة تملك القدرة على السيطرة على “حزب الله” إذ أجاب: نحن نتحاور مع “حزب الله”، ليس هناك قطيعة معهم… ولكن القرار لهم، ونحن  نأمل بألا يورطوا أنفسهم في حرب… أنا آمل وأصلّي ألا يكون هناك حرب”. 

لنا نحن اللبنانيين، أن نأمل ونصلي وننتظر خطابات نصرالله، فقرار الحرب والسلم في لبنان في يد حزبه ومحوره وباعتراف صريح من وزير الخارجية اللبناني. إن لم يكن هذا إنجازاً لحزب الله وإيران في زمن الحرب، فلننتظر ما ستؤول إليه توازنات القوى بعد انتهائها.