fbpx

قصّتنا في غزة

حرب الإبادة مستمرة في قطاع غزة وقائمة، والسياسات العنصرية ما زالت هي نفسها. الحياة في قطاع غزة معلّقة، خوف من المستقبل، عودة الى التاريخ وخطط التهجير القسري والمحو والإبادة، واقتلاع الفلسطينيين من أرضهم… كلها تشكّل هاجساً لهم يحاولون مواجهته بالصمود والانتظار.

يوصَف الغزيّ الآن، إما بنازح أو مُهجر قسرياً، صفة تُلحق بكل الموجودين بين مدينة غزة إلى مخيم الشابورة في رفح، ومن الشابورة إلى حي الجنينة في رفح.

في ظل هذا الواقع، لا أمتلك أي فكرة عن مستقبل الحرب التي تشنّ على غزّة، أسمع حكايات من النازحين في رفح، وأحاول إقناع نفسي بأن فكرة التهجير القسري الى صحراء سيناء تراجعت، لكن  ليست من قبيل المصادفة ملاحقة النازحين الي خان يونس وإجبارهم على النزوح إلى رفح، التي وصل عدد المقيمين فيها الآن الى نحو مليون إنسان، يعيشون في ظل ظروف إنسانية كارثية، فالدمار والقتل المستمر يلاحقان الناس في كل مكان بحجج مختلفة.

منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، نزح حوالى 1,9 مليون فلسطيني من مختلف أنحاء قطاع غزة، ما نسبته 85 في المئة من السكان، ومنهم من نزح أكثر من مرة، ومنهم من أُجبر على النزوح مرات متعددة. لكن القصة مديدة، إنها قصة 75 سنة من التهجير، و56 من الاحتلال، و16 سنة من الحصار. وها نحن نفتتح حقبة رابعة اسمها “الإبادة”.

أحاول نسيان ما كان والدي رحمه الله يحدثنا به عن النكبة في العام 1948، ونسيان ما وصفه من أهوالها وأهوال التهجير القسري والقتل والتدمير من دون تمييز، وفقدانه وأسرته كل ما كانوا يملكونه من أراض، خصوصاً بيتهم الجديد الذي أقاموه قبل النكبة بفترة قصيرة، ثم مقتل أخواله وأقربائه من أقرانه وأهل قريته. 

كانت هجرتهم الأولى مع جدي وعمي وأولاده الصغار إلى قرية بيت لاهيا حيث كانت لجدي تجارة مع إحدى العائلات هناك. تبعد بين لاهيا عن قرية والدي (برير) 15 كيلومتراً. مكثوا هناك نحو ستة أشهر، وبعد نفاد القمح الذي استطاعوا تهريبه من قريتهم معهم، وفشل تجارتهم التي حاولوا تأسيسها، وبعد التواصل مع العائلة وأهل القرية الذين نزحوا وتوزعوا بين جباليا وغزة ورفح، قرر عمي ووالدي التوجّه لرفح. أما جدي والد والدتي، فقرر الاستقرار في خان يونس حتى وفاته في العام 1986. 

ظلت صفة لاجئ تصاحبني وكأنها تركة حصلت عليها بالوراثة، نشأت وكبرت وتعلمت في مدارس وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين “أونروا” في مخيم الشابورة في رفح. 

بعد عامين من النكبة، عمل والدي موظفاً في الشرطة التابعة للإدارة المصرية، وكنا نستفيد من جميع خدمات “أونروا”، التعليم والصحة باستثناء المساعدات الغذائية والملابس (الطحين وبعض السلع الغذائية الأساسية)، لأن والدي كان موظفاً، والموظف يحرم من بعض الخدمات مع أن تصنيفنا لاجئين. 

قبل أسبوعين، توجهت الى مركز توزيع الدقيق (الطحين) بصفتي نازحاً، ويجب استلام الطحين شخصياً بالهوية الشخصية وحسب عدد أفراد الأسرة، كان بإمكاني أن أرسل أي شخص من أفراد العائلة لاستلام حصصنا، لكن كانت رغبتي هي الكتابة عن حال الناس، بخاصة النازحين ومتابعة آلية التوزيع ومراقبتها. حصتنا  3 أكياس من الطحين حسب أفراد العائلة، وهو السلعة النادرة التي تعتبر وجبة رئيسية يعتمد عليها الفلسطينيون في غالبيتهم.

في ظل هذا الواقع، لم تغب عن بالي فكرة التهجير للشعب الفلسطيني من قطاع غزة والضفة الغربية إلى دول أخرى، لتصفية القضية الفلسطينية.  المعلومات تقول إن حوالى 600 مسافر فلسطيني من الذين يحملون جوازات سفر أجنبية يسافرون يومياً بالتنسيق مع بعض الجهات السيادية  المصرية، منهم من يدفع  مبالغ مالية كبيرة مقابل السماح لهم بالسفر عبر  معبر رفح الى الخارج. 

يوصَف الغزيّ الآن، إما بنازح أو مُهجر قسرياً، صفة تُلحق بكل الموجودين بين مدينة غزة إلى مخيم الشابورة في رفح، ومن الشابورة إلى حي الجنينة في رفح.

منذ بداية الحرب ضد قطاع غزة في السابع من تشرين الأول، لم تتوقف الدعوات من الولايات المتحدة الأميركية ودول غربية عن مطالبة مصر بفتح ممرات آمنة عبر معبر رفح لمغادرة الفلسطينيين من سكان القطاع. 

تمكنت بعض الجهات المانحة من الدول الغربية وكذلك المؤسسات الدولية بالتنسيق مع مصر، من الحصول لعدد من موظفيها وعائلاتهم، على إذن بالسفر عبر معبر رفح، منهم من فضّل البقاء في مصر ومنهم من توجّه الى الدول المانحة التي عملت على إخراجهم من قطاع غزة.

الأسبوع الماضي، نشرت صحيفة هآرتس في ملحقها الأسبوعي عرضاً لكتاب “غزة: المكان والمخيال في الحيز الإسرائيلي”، الكتاب صدر عشية هجوم السابع من تشرين الأول، وضم مجموعة مقالات لكتاب إسرائيليين، تناولت موضوعات متنوعة، في محاولة فهم غزة واستيعابها كـ”مكان إسرائيلي”.

ومن خلال عرض الكتاب في تقرير هآرتس، استحضر التقرير مخططات الترانسفير التي أعقبت احتلال 1967، وأن إسرائيل أملت بأن تنجح في تقليل عدد الفلسطينيين في غزة وضمّها الى إسرائيل، وشجعت هجرة الغزيين شرقاً من خلال عدم تحسين الأوضاع المعيشية في القطاع، كما منحت هبات اقتصادية للراغبين في الهجرة إلى الضفة الغربية ومن هناك إلى الأردن.

 ذكر التقرير، عن التهجير الحاصل اليوم في غزة، أن القضية الفلسطينية تولد اليوم من جديد في القطاع وأمام أنظار العالم كله، إذ يفوق عدد لاجئي شمال غزة أعداد جميع لاجئي 1948، ولا توجد لغالبيتهم بيوت يرجعون إليها. يظنون أن العالم ربما يقدم لهم مساعدات إنسانية، لكن لا أحد سيأخذ على عاتقه المهمة الشرطية أو إدارة قضاياهم السياسية، كما أن فصل غزة عن الضفة قد انتهى، إذ تقوم إسرائيل بتوحيدهما من جديد تحت سيطرتها.

الشهر الماضي، نشر كل من عضو حزب الليكود داني دنون ورام بن باراك، نائب رئيس الموساد السابق وعضو الكنيست من المعسكر الوطني، مقالاً في صحيفة أميركية قدما فيه مقترحاً لتشجيع الفلسطينيين من قطاع غزة على الهجرة الطوعية بالتعاون مع دول العالم، للترويج لتهجير الفلسطينيين.

فكرة الترانسفير والتهجير القسري للفلسطينيين لم تغب عن خطط الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة وسياساتها. وخلال العقود الماضية، روّجت الحكومات الإسرائيلية المختلفة لمشروع عملي حول التهجير. ومنذ عام 1949، ناقشت الحكومة الإسرائيلية إمكان ضمّ قطاع غزة الى إسرائيل من دون اللاجئين الفلسطينيين، وناقشت إمكان توطينهم في الضفة الغربية المحتلّة. 

وقبل 55 عاماً ومباشرة بعد حرب 1967، كان وزير الدفاع موشي ديان صاحب فكرة  تشجيع الفلسطينيين على الهجرة من قطاع غزة. 

ولذلك، تم تنظيم رحلات للاجئين من غزة الى الضفة الغربية كي يشاهدوا  نماذج أخرى من الحياة.

عام 1968، شكل رئيس الوزراء ليفي أشكول فريقاً سرياً شارك في عملية الترويج وتشجيع الفلسطينيين على الهجرة الطوعية من غزة، لكن الخطة فشلت بسبب امتناع دول العالم عن استقبال الفلسطينيين (بخاصة البرازيل التي كانت الآمال معلّقة عليها)، والعقبات من جانب الأردن، وإدانة من وافقوا على المغادرة باعتبارهم متعاونين، والإضرار بعائلاتهم، إلى جانب العوائق من جانب إسرائيل مالياً وتنظيمياً. 

كما حاولت غولدا مائير عام 1969، من خلال  إحياء الفكرة وتشجيع الهجرة إلى باراغواي، والاتفاق معها على استيعاب 50 ألف فلسطيني، والذي تعهدت إسرائيل بموجبه بتقديم منح مالية للمهاجرين ولحكومة باراغواي، لكن هذه الخطوة باءت بالفشل أيضاً.

ووفق وسائل الإعلام الإسرائيلية، لم تتوقف مخططات إسرائيل لتهجير سكان قطاع غزة إلى سيناء ودول أخرى. وكشفت أنه في عام 2008، تقدمت إسرائيل بمشروع للرئيس المصري حسني مبارك، يقضي بمنح مصر 600 كيلومتر مربع بمحاذاة قطاع غزة لنقل الفلسطينيين إليها، مقابل أن تحصل مصر على 600 كيلومتر مربع في صحراء النقب بجوار منطقة “العوجاء”. لكن مصر رفضت هذا المقترح، ثم عادت إسرائيل وتقدمت بالمقترح مرة أخرى في العام 2014، ولكن مصر رفضته أيضاً.

وفي عام 2018، تم إحياء الفكرة مرة أخرى من بعض المسؤولين في الحكومة الإسرائيلية على خلفية مسيرات العودة التي أربكت إسرائيل، لكن تنفيذ تلك الفكرة فشل لكنها ظلت قائمة.

منذ النكبة وحتى الآن، تعمل إسرائيل على دفع الفلسطينيين الى التهجير القسري بطرق عدة، سواء بالحصار والعقاب الجماعي أو بالجرائم التي ترتكبها. 

حرب الإبادة مستمرة في قطاع غزة وقائمة، والسياسات العنصرية ما زالت هي نفسها. الحياة في قطاع غزة معلّقة، خوف من المستقبل، عودة الى التاريخ وخطط التهجير القسري والمحو والإبادة، واقتلاع الفلسطينيين من أرضهم… كلها تشكّل هاجساً لهم يحاولون مواجهته بالصمود والانتظار.